اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الانـهماك في الإعادة ليلاً و نهاراً ، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض .
وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباريّ (1) في مرض موته ، فنظر إلى مائه وقال : قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد ، ثم خرج فقال : ما يجيء منه شيء (2) ، فقيل له : ما الذي كنت تفعل ؟ قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة (3) – أي من حفظه - .
ومن الغلط تحميل القلب حفظ الكثيـر أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .
فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونـها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ؛ ضاعت منه أوقات ،كما أن الشرِه يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات ! و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق (4) ، ويعيده في وقتين من النهار و الليل ، و يرفه القُوى في بقية الزمان (5) .
والدوام أصل عظيم ، فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ ! .
وللحفظ أوقات من العمر ، فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار ، و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .
ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ؛ لأن ذلك يلهي ،و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .
والخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .
وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ؛ ليثبت المحفوظ ، و تأخذ النفس قوة ، كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ، ثم يبني عليه .
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم .
وألا يشرع في فن حتى يُحكِم ما قبله .
ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .
وإصلاح المزاح من الأصول العظيمة ؛ فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .
قال الزهريّ : ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ .
وقيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .
وقال حماد بن سلمة : بقلة الغم .
وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن ؛ فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة ، و هذا لأجل جمع الهم ، فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل ؛ لتتوفر القوة على إعادة العلم .
ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير ،و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل .
وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن ، ثم الفقه ، وما بعد هذا بـمنـزلة تابع .
ومن رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل .
ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن ، (( واتقوا الله ويعلمكم الله )) سورة البقرة ، الآية (282) ، (*) .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) و (2) ابن الأنباري : هو أبو بكر محمد بن القاسم ، الإمام ، الحافظ ، المقرئ ، النحوي ، ولد سنة 271هـ ، وتوفي سنة 328هـ .
انظر ترجمته في (( تاريخ بغداد )) (3/181) و (( سير أعلام النبلاء )) (15/274) .
(3) أي همة هذه :
أولئك القوم يحي القلب إن ذُكِروا ويذكر الله إن ذكراهُمُ تردُ
(4) و (5) هذا الكلام يوجه إلى أصحاب الهمم العالية الذين يرهقون أنفسهم في طلب العلم إرهاقًا شديدًا ، وهم في زماننا هذا كعنقاء مغرب ، فمن في هذا الزمان يعيد ما يحفظه في وقتين من الليل والنهار ؟!
(*) (( صيد الخاطر )) ص (310 – 313 ) .