.... أهلاً وسهلا بطلاب العلم في موقع المتون العلمية ..... أهلا وسهلا بزوارنا الكرام ...........


 

اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الانـهماك في الإعادة ليلاً و نهاراً ، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض .

وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباريّ (1) في مرض موته ، فنظر إلى مائه وقال :   قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد  ، ثم خرج فقال : ما يجيء منه شيء (2) ، فقيل له : ما الذي كنت تفعل ؟  قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة (3) – أي من حفظه - .

ومن الغلط تحميل القلب حفظ الكثيـر أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .

فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونـها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ؛ ضاعت منه أوقات ،كما أن الشرِه يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات ! و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق (4) ، ويعيده في وقتين من النهار و الليل ، و يرفه القُوى في بقية الزمان (5) .

والدوام أصل عظيم ، فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ ! .

وللحفظ أوقات من العمر ، فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار ، و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .

ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ؛ لأن ذلك يلهي ،و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .

والخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .

وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ؛ ليثبت المحفوظ ، و تأخذ النفس قوة ، كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ، ثم يبني عليه .

وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم .

وألا يشرع في فن حتى يُحكِم ما قبله .

ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .

وإصلاح المزاح من الأصول العظيمة ؛ فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .

قال الزهريّ : ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ .

وقيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .

وقال حماد بن سلمة : بقلة الغم  .

وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن ؛ فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة ، و هذا لأجل جمع الهم ، فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل ؛ لتتوفر القوة على إعادة العلم .

ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير ،و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل .

وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن ، ثم الفقه ، وما بعد هذا بـمنـزلة تابع .

ومن رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل .

ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن  ، (( واتقوا الله ويعلمكم الله )) سورة البقرة ، الآية (282) ، (*) .

ـــــــــــــــــــــــ

(1)   و (2) ابن الأنباري : هو أبو بكر محمد بن القاسم ، الإمام ، الحافظ ، المقرئ ، النحوي ، ولد سنة 271هـ ، وتوفي سنة 328هـ .

انظر ترجمته في (( تاريخ بغداد )) (3/181) و (( سير أعلام النبلاء )) (15/274) .

(3) أي همة هذه :

أولئك القوم يحي القلب إن ذُكِروا          ويذكر الله إن ذكراهُمُ تردُ

(4) و (5) هذا الكلام يوجه إلى أصحاب الهمم العالية الذين يرهقون أنفسهم في طلب العلم إرهاقًا شديدًا ، وهم في زماننا هذا كعنقاء مغرب ، فمن في هذا الزمان يعيد ما يحفظه في وقتين من الليل والنهار ؟!

(*) (( صيد الخاطر )) ص  (310 – 313 ) .

 

 

 

Web Traffic Statistics