ختم الدكتور : عبد الجواد الصاويّ كتابه النافع (( الصيام معجزة علمية )) بتوصيات تتعلق بالمفاهيم الخاطئة عن الغذاء ، وغيرها من الأمور ، رأيت أن أوردها بتمامها لتعم بـها الفائدة .
قال جزاه الله خـيـرًا : (( في نـهاية هذا البحث ، يحسن بنا أن نوجه كلمة هامة لإخواننا المسلمين ، ونقدم بعض التوصيات ، لعلها تسهم في تغيـيـر المفاهيم الخاطئة عن الغذاء
لدى العامة والخاصة .
إن تصورات الناس ومعتقداتـهم هي الدافع والمحرك لسلوكهم ، فكثيـرون منهم أسرى لبعض المعتقدات الخاطئة عن الصحة والطعام ، فقد اصطلح الناس على أن تناول ثلاث وجبات يوميًا ، أمر ضروري لحفظ حياتـهم ، وباتوا يعتقدون أن إغفال وجبة طعام واحدة سيكون لها أثر سلبيّ على صحة الفرد وسلامة بنيانه .
لذلك نـهيب بالمسلم ونحثه على أن يبني ثقافته وأفكاره على أوامر ربه ، وتوجيهات رسوله عليه الصلاة والسلام ، والتي جلّتها وأكدتـها حقائق العلم في كل ميدان .
ولقد أنزل الله سبحانه في الطعام والشراب تشريعًا فأحل الطيبات وحرم الخبائث ، ووضع قاعدة الاعتدال في تناول الطيبات ، قال تعالى : {... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ... } (الأعراف : 31) ولعظم هذه القاعدة وفضلها وأثرها الخطيـر على حياة الناس ، سماها الإمام ابن القيم : القاعدة الذهبية في حفظ الحياة البشرية .
إن الأخطار والأضرار الناتجة من كثر الأكل ، وكثرة تناول الأغذية ، التي يلتهمها الإنسان بلا موعد أو ضابط ، باتت حقيقة لا نزاع فيها ، يقول الدكتور بلاكبرون (Blakburn) أستاذ الجراحة بكلية الطب في جامعة هارفارد ، بعد أن درس بعض التأثيـرات الفيزيائية للصوم : من المؤكد أن الأكل وخصوصًا المتعاقب (إدخال الطعام على الطعام ) يشكل عبئًا ثقيلاً بالتمثيل الغذائي على الجسم ، فيفرز كميات كبيـرة من هرمونات الجهاز الهضميّ والإنسولين ، وأن قطع هذه العادة سيقلل من إفراز هذه الهرمونات ، مما يحفظ صحة الجسم ، ويعطي للإنسان حياة أفضل وأطول ، ولقد أجريت تجارب في مركز أبحاث جيـرونتولوجي في بالتمور ، فوجد أن فئران التجارب التي تأكل يومًا بعد يوم ، يمتد عمرها 63 أسبوعًا أطول من مثيلاتـها ، التي يسمح لها بالأكل كلما تريد ، كما أنها كانت الأكثر نشاطًا في الأسابيع الأخيـرة من عمرها .
إن الإنسان في العصر الحديث كما يقول الدكتور ماهلر (Mahler) في بحث له عن السمنة ، لا يأكل لأنه جائع ؛ بل يأكل ليـرضي شهوته للطعام .
لقد أشار صلى الله عليه وسلم إشارة جلية إلى أخطار وأضرار الأكل وبيّن حدود الاعتدال في تناوله في الحديث الذي رواه المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ما ملأ آدميّ وَعَاءً شرًا مِن بَطْنٍ ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتِ يُقِمْنَ صُلْبَهُ ، فَإِنْ كَانَ لاَ محَالَةَ : فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ )) (1) .
ثم شرع الله الصيام تزكية لنفس الإنسان ، وتـهذيـبًا لسلوكه ، ووقاية وعلاجًا مما قد يصيبه من علل وآفات في نفسه وجسده من جراء كثرة الأكل ودوامه .
فهل يفقه المسلمون تشريعات دينهم ، ويعقلون الحكمة منها حتى يكونوا على بصيـرة من أمرهم ، ولا يكونوا إمَّعَة تابعين لكل ناعق من أصحاب الشبهات والشهوات الذين يأكلون كما تأكل الأنعام ، ويريدون منا أن نستعبد لبطوننا وشهواتنا ، ليسهل لهم حينئذ قيادنا ، وإذلالنا ، وإضلالنا ، فهل من عقلاء وحكماء يُبَصِّرون الأمة بتشريعات ربـها ونبـيها ، ويصدون الهجمة الشرسة في غزو العقول ، وحشو البطون ؟
إننا نوصي أنفسنا وإخواننا المسلمين بالوصايا التالية :
1- ضرورة أن يتحرر المسلم من الأوهام والمعتقدات الخاطئة ، والسلوك الضار في موضوع الصيام والغذاء ، وأن يعيد إصلاح أفكاره ، وبناء سلوكه وعاداته ، وفق توجيهات ربه وسلوك نبيه صلى الله عليه وسلم وسلفه الصالح ، وأن يستعلي فوق شهواته ، وألا يكون الطعام هو هدفه الذي يحيا من أجله ، وأن يعيش لغاية أسمى وهي تحقيق مرضاة ربه ، قائمًا بأوامره ، ناصرًا لدينه ، محبًّا لعباده ، ومعينًا لهم .
2- أناشد المسلمين أن يدركوا الحكمة الحقيقيّة من الصيام ، وأن يلتزموا بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام وصحابته في أدائه على الصورة المثلى ، والتي يمكن أن يتحقق بالآتي :
تقليل فترة الصيام اليوميّ ، وذلك بتعجيل الفطور وتأخيـر السحور .
(1) تناول وجبة السحور وعدم إهمالـها .
(2) الاعتدال في الطعام والشراب أثناء السحور والإفطار ، والاقتصار عليهما ، وترك عادة كثرة الأكل طوال الليل .
(3) القيام بالحركة والنشاط والجهد اليومي المعتاد .
(4) نوم جزء من الليل وترك السهر المتواصل .
3- نناشد أجهزة الإعلام في العالم الإسلاميّ أن تكف عن دفع الناس إلى المزيد من الشراهة واستهلاك الكثيـر من الغذاء ، خاصة في شهر رمضان ، عبـر الإعلانات التجارية التي تستهدف الصغار قبل الكبار ، وألا تجري وراء العادات والتقاليد الخاطئة للناس ، وأن تكون أداة لتصحيح المفاهيم ، وترشيد السلوك ، وأن تلغي حالات الطوارئ التي ترفعها الدول لجلب المزيد من الطعام والشراب ، استعدادًا لتحويل شهر الصيام إلى شهر للأكل والكسل والنوم .
4- ليعلم الجميع أن الصيام مدرسة عملية للاقتصاد ، وتعويد النفس الصبـر والجلد وقوة التحمل عند الأزمات والملمات ، وضبط النوازع والرغبات ، وكل هذا لا يريده أعداء المسلمين ، فنناشد الجميع أن يفطنوا لذلك ، ويحرصوا على جني ثمار صومهم بتزكية أنفسهم ، وصحة أبدانـهم ، وتوفيـر وجبة طعام واحدة يقدمها المستغني عنها لإخوانه ، الذين يعانون من وطأة الفقر والتنصيـر في بعض بلاد المسلمين .
5- أحث المسلمين الذين اعتادوا على بعض العادات الضارة بالصحة كالتدخين ، ولمن أصيب منهم بداء تناول المخدرات ، على الإقلاع عن هذه الآفات ، والتوبة الصادقة من هذه المآثم المهلكات ، وتوجيه طاقاتـهم إلى كل نافع مفيد لهم في دينهم ودنياهم ، كما نحث الأطباء والعاملين في الحقل الصحيّ ، أن يقوموا بدورهم في محاربة هذه الخبائث ، وأن يكونوا قدوة بأفعالـهم وسلوكهم .
6- نناشد الشباب والمسلمين عامة ، أن يحافظوا على صيام النوافل والسنن ، وأن يحرص كل مسلم على صيام ثلاثة أيام من كل شهر على الأقل .
7- ضرورة الاهتمام بالدراسات والأبحاث التجريبية المتعلقة بالصيام من قبل المهتمين بالطب الإسلاميّ في الجامعات ومراكز البحوث ، وتكرار هذه البحوث وفق ضوابط علمية واحدة حتى يسهل مقارنة النتائج .
8- نحث الأطباء المسلمين على اعتماد الصيام الإسلاميّ المثاليّ ، كوسيلة فعالة من وسائل الوقاية والعلاج ، لكثيـر من الأمراض والاضطراب في جسم الإنسان ، وإعادة النظر في بعض الأفكار التي تتعلق بتغذية المرضى .
9- نناشد الأطباء المتخصصين ، وكل العلماء في فروع العلوم الأخرى ، أن يعيدوا القراءة للعلوم مرة أخرى ، وفي ظلال آيات القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وسيـرون بإذن الله في الآفاق والأنفس ، ما يثلج صدورهم من التوافق الدقيق بين حقائق العلم ، ودلالات النصوص الكونية .
10- ندعو العلماء جميعًا في كل ميدان للتعاون مع هيئة الإعجاز العلميّ في القرآن والسنة بأفكارهم وأبحاثهم ، وستمد الهيئة لهم يد العون ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ، تحقيقًا لقوله تعالى : { ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ...} (المائدة : 2) حتى تظهر الحقيقة ويستبين الهدى للناس جميعًا ، ولتحقق قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة : 33) .
وختامًا نقول مع العلماء الذين اهتموا بدراسة الصوم :
إن الصيام مازال كنـزًا مجهولاً لدى المهتمين بصحة الإنسان ، وعلى رأسهم الأطباء والمشتغلون بتطبيب ورعاية المرضى ، وأنه يجب أن يرفع الصوم من جديد إلى المكانة الرفيعة التي كان يتسنمها ، حيث كان الصوم فوق الطب ، وقد ألح العلماء على وجوب اكتشاف الصوم من جديد ، وإعادة الاعتبار إليه ؛ لأنه ضرورة تقتضيها الحياة ، وأن على الأطباء واجبًا : أن يبينوا للناس أخطار وأضرار كثرة الأكل ، وكثرة تنوع الأغذية التي يلتهمها الإنسان بلا موعد أو ضابط ، وبث التوعية في المجتمعات الإسلامية بما أمر الله به في هذا الباب ، وبما حث وندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله ، وستبقى سيـرته صلى الله عليه وسلم ، وسيرة أصحابه ، والرعيل الأول من القرون المفضلة ، خير شاهد على خطأ أفكارنا وعاداتنا في الطعام والشراب ، وستبقى هذه المنارات شامخة ومضيئة لمن أراد أن يحذوا حذوهم ويسيـر على نـهجهم ، ويمتلك ناصية القيادة والريادة بين الأمم ، فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام ، كان يمضي الشهر والشهرين والثلاثة لا يطبخ في بيته طعام ، وكان يعيش على التمر والماء في بعض الأحيان ، وهذه الجيوش التي كان زاد الواحد منهم أحيانًا وقت النـزال والمعارك ثلاث تمرات ، وهذا أميـر المؤمنين عمر بن الخطاب يزور قائد الجند في ميدان المعارك أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهما ، يطلب منه طعامًا فيقدم له كل ما عنده كسرات من خبز جاف وماء قراح ....
هذه أحوالهم يوم سادوا الدنيا ، وهذه أحوالنا ! لقد تبارينا في صناعة الطعام واستيـراده ، محفوظًا ومجمدًا ومعلبًا ، وربما كان ملوثًا ، وتنافسنا في تنويعه وتحسينه ، وأقبلنا عليه نلتهمه بنهم وشراهة ، لا هم لنا إلا ملء البطون ، والنوم ملء الجفون ، حتى ظهر فينا السِّمن ، وتبلدت فينا الأفكار ، وتثاقلت علينا الأوهام والأوزار ، وخمدت في نفوسنا الهمم الكبار ، فاستذلنا الأذلاء ، وباع فينا واشترى كل السفهاء .
فيا أيها العقلاء والنجباء ، ويا أولي الألباب عودوا إلى ربكم ، واستمسكوا بدينكم ،عضوا عليه بالنواجذ ، فإنه عزكم وسعادتكم في الدينا والآخرة ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذيّ في كتاب الزهد من جامعه ، برقم (2380) ، وابن ماجه ، بنحوه برقم (3349) ، وكذا الحاكم ، وصححه جمع من أهل العلم ، كابن حبان والذهبي ، وحسن إسناده عند الترمذيّ ابن حجر في (( الفتح )) (9/528) .