قال الإمام القرطبي في تفسيـره : (( وجوه إعجاز القرآن عشرة :
منها : النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيـرها ؛ لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء ، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } (يــس : 69).
وفي صحيح مسلم أن أُنيسًا أخا أبي ذرٍّ قال لأبي ذرٍّ : لقيت رجلاً بمكَّةَ على دِينك ، يزعم أن الله أرسله ، قلت : فما يقول الناس؟ قال يقولون : شاعرٌ ، كاهنٌ ، ساحرٌ ، وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكَهَـنَـةِ ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ،والله إنه لصادقٌ وإنـهم لكاذبون (1) .
وكذلك أقرَّ عُتبة بن ربيعة أنه ليس بسِحر ولا بشِـعر ، لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حم" فُصلت ، على ما يأتي بيانه هناك (2) ، فإذا اعترف عُتبة - على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة - بأنه ما سَـمِـعَ مثل القرآن قَطُّ، كان في هذا القول مُقِرًّا بإعجاز القرآن له ، ولضربائه من المتحـقِّـقين بالفصاحة ، والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ومنها : الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
ومنها : الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال ، وتأمل ذلك في سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (ق : 1) ، إلى آخرها ، وقوله سبحانه : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (الزمر : 67) ، إلى آخر السورة ، وكذلك قوله سبحانه : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } (إبراهيم : 42) ، إلى آخر السورة .
قال ابن الحصار (3) : فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق ، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيـره ، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } (غافر : 16) ، ولا أن يقول : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } (الرعد : 13) .
قال ابن الحصار : وهذه الثلاثة من النظم ، والأسلوب ، والجزالة ، لازمةٌ كلَّ سورة ، بل هي لازمةٌ كلَّ آية ، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر ، وبـها وقع التحدي والتعجيز ، ومع هذا فكل سورة تنفرد بـهذه الثلاثة ، من غير أن ينضافَ إليها أمرٌ آخر من الوجوه العشر ، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قِصار ، وهي أقصر سورة في القرآن ، وقد تضمنت الإخبارَ عن مُـغَـيَّـبَـين :
أحدهما : الإخبار عن الكوثر ، وعظمه ، وسعته ، وكثرة أوانيه ، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرُّسُل . والثاني : الإخبار عن الوليد بن المغيـرة ، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد ، على ما يقتضيه قوله الحق :
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ، وَبَنِينَ شُهُودًا ، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا} (المدثر :11-14) ، ثم أهلكَ الله سبحانه ماله وولده ، وانقطع نسله .
ومنها : التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقلُّ به عربيٌّ ، حتى يقعَ منهم الاتـفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه .
ومنها : الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نـزولِه من أمِّيٍّ ما كان يتلو من قبله من كتاب ، ولا يخطه بيمينه ، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها ، والقرون الخالية في دهرها ، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه ، وتحدوه به من قصص أهل الكهف ، وشأن موسى والخضر عليهما السلام ، وحال ذي القرنين ، فجاءهم - وهو أُميٌّ من أمَّـةٍ أُمِّـيَّـة ، ليس لـها بذلك علم - بما عرفوا من الكتب السالفة صحته ، فتحققوا صدقه .
قال القاضي ابن الطيب (4) : ونحن نعلم ضرورة أنَّ هذا مما لا سبيلَ إليه إلا عن تعلم ، وإذا كان معروفاً أنه لم يكن ملابسًا لأهلِ الآثار، وحَمَلَةِ الأخبار ، ولا مترددًا إلى التعلم منهم ، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقعَ إليه كتاب فيأخذ منه ، عُلِمَ أنه لا يصِلُ إلى علمِ ذلك إلا بتأييد من جهة الوَحي .
ومنها : الوفاء بالوعد ، المدرك بالحسن في العِيان ، في كلِّ ما وعدَ الله سبحان ، وينقسم إلى :
أخباره المطلقة : كوعده بنصر رسوله عليه السلام ، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه .
وإلى مقيد بشرط : كقوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق : 3) { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } ( التغابن : 11) { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} ( الطلاق : 2) و { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } ( الأنفال : 65) وشبه ذلك .
ومنها : الإخبار عن الـمُـغَـيَّـبات في المستقبل التي لا يُطَّلَعُ عليها إلا بالوحي ، فمن ذلك : ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سَـيُظهِرُ دينه على الأديان بقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } (التوبة :23) ، الآية ، ففعل ذلك ، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزَى جيوشه عرَّفَهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ، لـيَـثِـقُوا بالنصر ، ولـيَـسْـتَـيـقِـنوا بالـنُّـجْـح ، وكان عمر يفعل ذلك (5) : فلم يزل الفتح يتوالى شرقاً وغرباً ، براً وبحراً ، قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } (النــور: 55) وقال : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح:27) وقال : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } (الأنفال :7) وقال : {الـم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم : 1-3).
فهذه كلُّها أخبار عن الغيوب التي لا يَـقِـفُ عليها إلا ربُّ العالمين ، أو من أوقفه عليها ربُّ العالمين ، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكونَ دلالة على صدقه .
ومنها : ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قِوامُ جميع الأنام ، في الحلال والحرام ، وفي سائر الأحكام .
ومنها : الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتـها وشرفها من آدميّ .
ومنها : التناسب في جميع ما تضمنه ظاهراً وباطناً من غـيـر اختلاف ، قال الله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} ( النساء:82) .
قلت : فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم )) .
* (( الجامع لأحكام القرآن )) (1/116-119) ط : الرسالة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم (2473) وعنده : فما يلتئم ، وهو في مسند أحمد (21525) .
(2) أخرج قصة عتبة بن ربيعة ابن إسحاق فيما ذكر ابن هشام (1/293-294) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (2/204-205) وسترد القصة في أول تفسير سورة فصلت (18/390-391) ط : الرسالة .
(3) عبدالرحمن بن أحمد بن سعيد ، أبو المطرِّف ، القرطبي المالكي ، تفقه بأبي عمر الإشبيلي ، توفي سنة 422هـ ، سيرة أعلام النبلاء (17/473) .
(4) في إعجاز القرآن ، ص (51) .
(5) من قوله : فمن ذلك ما وعد الله نبيه ، إلى هذا الموضع ، من إعجاز القرآن للباقلاني ، ص (48) .