ويشتمل هذا الباب على ما قيل في الـخُـفَّـاش ، والكَـرَوان ، والـبُـوم ، والصَّدَى .
فامّا الـخُـفّاش وما قيل فيه – فالـخُـفَّـاش ليس من الطيـر في شيء ، فإنه ذو أذنين ظاهرتين وأسنان ، وخَـطْم وخُصيتين بارزتين ، ويبول كما تبول ذوات الأربع ، ويَحيض ويلد ويُرضِع ، ولا ريش له .
قال بعض المفسرين لكتاب الله عزّ وجل : إن الـخُـفّاش هو الطائر الذي خلقه عيسى بن مريم عليه السلام بإذن الله تعالى (1) ؛ ولذلك هو مباين لصنعة الخالق ؛ ولهذا سائر الطيـر تَـقـهره وتُـبـغضه ؛ فما كان منها يأكل اللحمَ أكله ، وما لا يأكل اللحم قتلَه ، فلذلك لا يطيـر إلاّ ليلاً .
وطعامُه البعوض والفراشُ يصيدهما وقتَ طيرانه ، ولا يبلغ ذلك إلا بما فيه من سرعة الاختطاف وشِدّة الطيران ولين الأعطاف .
وهو مع ذلك ليس بذي ريش ، وإنما هو لحم مُغَشَّى بجلْد صُلبٍ كأنه جلد ضفْدَع ، وهو يصيـر بغيـر ريش ، وهذا من العَجَب .
وهو لا يطيـر في ضوءٍ ولا ظلمة ، وسببُ ذلك أنه ضعيف حاسّةِ البصر ، قليلُ شُعاع العين ؛ فالشمس تُضعِف بصره عن التحديق في شعاعها ، والظلمة تغمرُ ضياء بصره ؛ فهو يجعل طيرانَه لطلبِ قُـوتِـه ، وقت غروب الشمس وظهور الشّفق ، وذلك وقتَ هَيج البعوض وانتشاره ، ومنازله في الجبال ، وصُدوع الصخور ، وبسيط الفَيَافِي ، وجزائر البحر ، والأماكن الـخَـرِبة المهجورة ، وهو يَطلب قُرب النَاس ؛ فإذا كان في بيوتـهم قصد أرفعَ مكانٍ ، وهو يلد ما بين الثلاثة إلى التسعة .
ويسْـفِـد غالبًا وهو طائر في الهواء ، وهو يحمل ولده تحت جناحه ، وربما قبض عليه بفِيهِ لإشفاقه عليه ، وربما أرضعت الأثنى ولدها وهي طائرة ، أخبرني من شاهد ذلك ممن يُعتمد على نقله ، وهو متى أصابه شجر الدُّلْب (2) خَدِر .
قال الجاحظ : والـخُـفّاش يأتي الرُّمانة وهي على شجرتـها فينقُب عنها ويأكل جميع ما فيها حتى لا يدع إلا القشرَ وَحْده ، قال ولحوم الخفافيش موافقةٌ للشواهين والصقور والبَـوَازِي ولكثيـر من جوارح الطيـر ، وهي تَسْمَن عنها وتصِحّ أبدانـها عليها ، ولها في ذلك عملٌ محمود ناجع عظيم النفع بين الأثر .
وقال بعض الشعراء في الـخُـفاش مُـلْـغِـزًا : ( من الرجز )

وقال آخر :

وأما الكروان وما قيل فيه : فالكروان طائر من طبعه وعادته الطيرانُ في الليل ، والإدلاج والصِّـيَاح بالأسحار ، والإشراف على مواضع العساكر ، ويوصف بالـحُـمْـق ، ومن حمقه أنه يقال له : أَطْـرِق كَـرَا ، فَـيَـلْـصَـق بالأرض حتى يُـرْمَـى ، وتقول العرب :
أَطْـرِق كَـرَا أَطرق كَـرَا إِنّ الـنَّـعَـامَـةَ فِي الـقُـرَى (5)
أما البُوم وما قيل فيه ، فيقال : إنه الصَّدَى ، ويقال : بل الصَّدَى ذكَرُ البُوم ، وللبوم ذكر له منه ، ويقال : إنه خمسة أصناف : منه ما يصيد الأرنب ، ومنه صِنْف له لونان يأوِي الأكامَ والـبَـرِّيـةَ ، ومن المدبَّـج بالصُّـفْـرة ، وله حواجبُ وقرونٌ من ريش ، ويسكن الجُدْران ، ومنه الـهـام ويسمّى (( الغبشية )) ومنه (( القن )) وهو يصيح كالهامِ لكن صوته أدق .
وكل هذه الأصناف تحب الـخَـلْوَةَ بنفسها ، وهي تبغض الغربان ، وسائر أصناف الطيور تُـبـغِـضها ، فإن الطيور إذا رأينها يطرن حولها ، وينتفن ريشها ، فلذلك صيّادو الطيور يجعلونها في مصايدهم ؛ لأن الطيور إذ رأتـهـا اجتمعت عليها ، فتُصاد عند ذلك .
وأما الصَّدَي وما قيل فيه ، فإن العرب تزعم أن الإنسان إذا مات أو قُـتل تتصور نفسه في صورة طائرٍ تصرخُ على قبـره مستوحِشةً لجسدها ، وفي ذلك يقول تَـوْبـة (6) :

ويحكون على ذلك حكاية : وتقول العرب : إن هذا الطائر يكون صغيـرًا ثم يكبـر حتى يصيـرَ في قدر الـبُـوم ، ويسمُّـونه الـهـام ، واحدُه هامَـةٌ ، وهو يتوحَّـش ويصيح ويوجد في الدّيار المعطَّلة والـنَّـواويس (7) ، وحيث مَـصَـارعُ القَـتْـلَـى وأجداثُ الأموات .
ويقولون : إنه لا يزال عند وَلدِ الـمـيّـت ومُـخْـلَـفِـيه ليعلم ما يكون بعد فيخبـره ، وهذا كلُّه أراه من خُـرافات العرب وأكاذيـبها ، وما زالوا على ذلك حتى جاء الإسلام فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال : (( لا عَدْوى وَلا طِيـرَةَ ولاَ هَامَـةَ ولا صفر )) (8) الحديث ، والله أعلم .
* انظر (( نهاية الأرب في فنون الأدب )) للشهاب الدين النويريّ (10/172-174) .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) ليس على هذا الزعم آثارة من علم ، ولا يبعد أن يكون من أخبار بني إسرائيل .
(2) الدُّلْب : جنس شجر للتزيـيـن ، من الفصيلة الدلبية ، وهو من الزهريات ، يحب الماء .
(3) الوصل : ( بكسر أوله ) كل عظم على حدة ، لا يكسر ولا يوصل به غيـره .
(4) هكذا ورد بإثبات النون ، وهو لحن ، واعتباره ضرورة شعرية أمر غير سائغ .
(5) هذا المثل يضرب للرجل الحقيـر .
(6) هو الشاعر : توبة بن الحميـر .
(7) النواويس : مفرده ناووس ، وهو صندوق من خشب أو نحوه يضع النصارى فيه جثة الميت ، أو هو مقبـرة النصارى .
(8) أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (5345) .