فائدة في معنى الكوثر ، وذكر اختلاف المفسرين في الكوثر الذي أعطيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
الكوثر : فَوْعَل من الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر .
والعرب تسمي كل شيء كثيـر في العدد والقدر والخطر كوثرا ، قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك؟ قالت بكوثر ، أي بمال كثيـر.
والكوثر من الرجال : السيد الكثيـر الخيـر.
قال الكميت:
وأنت كثيـرٌ يا ابنَ مَرْوانَ طَـيِّـبٌ وكان أبوك ابنُ العقائِلِ كَوْثـرا(1)
والكوثر: العدد الكثيـر من الأصحاب والأشياع .
والكوثر من الغبار : الكثـيـر ، وقد تكوثر ، قال الشاعر:
وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا (2)
واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أُعْطِيَه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ستة عشر قولاً
الأول : أنه نـهـر في الجنة ، رواه البخاريّ (3) عن أنس والترمذيّ أيضاً (4) ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة .
وروى الترمذيّ أيضاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ((الكَوْثَرُ : نَـهْـرٌ فِي الْجَنَةِ ، حَافَتَاهُ مِن ذَهَبٍ ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الْدُرِّ وَاليَّاقُوتْ ، تُـرْبـَـتُـهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْـيَـضُ مِنَ الثَّلْجِ )) هذا حديث حسن صحيح (5) .
الثاني : أنه حوض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الموقف ، قاله عطاء (6) ، وفي صحيح مسلم (7) عن أنس قال : بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أَغْفَى (8) إِغْفَاءةً ، ثم رفع رأسه مُـتَـبَـسِّـمًا فقلنا : ما أَضْحَكَكَ يا رسول الله؟ قال: (( نَـزَلَتْ عَلَيَّ آنِـفاً سُورَةٌ )) فقرأ : )) بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ )) ثم قال (( أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَـرُ؟ )) قلنا الله ورسوله أعلم قال : (( فَإنَّهُ فَإِنَّهُ نَهْرٌ ، وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ ، فَيُخْـتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَأَقُولُ : رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي ، فَيُـقَـالُ : إِنَّـكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ )) .
إلى أن قال : ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرًا ، لكثرة الواردة والشَّارِبةِ من أمةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام هناك ، ويسمى به لما فيه من الخيـر الكثيـر والماء الكثيـر.
الثالث : أنَّ الكوثر النبوة والكتاب ، قاله عكرمة .
الرابع : القرآن ، قاله الحسن .
الخامس : الإسلام ، حكاه المغيـرة.
السادس : تيسيـر القرآن وتخفيف الشرائع ، قاله الحسين بن الفضل .
السابع : هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياعِ ، قاله أبو بكر بن عياش ويمان ابن رئاب .
الثامن : أنه الإيثار ، قاله ابن كيسان .
التاسع : أنه رفعة الذكر ، حكاه الماورديّ .
العاشر : أنه نور في قلبك دلَّك عَلَيّ ، وقطعك عما سواي ، وعنه : هو الشفاعة ، وهو الحادي عشر.
وقيل : معجزات الرب هُدِيَ بـهـا أهل الإجابة لدعوتك ، حكاه الثعلبيّ وهو الثاني عشر .
الثالث عشر : قال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله .
وقيل : الفقه في الدين ، وقيل: الصلوات الخمس ، وهما الرابع عشر والخامس عشر.
وقال ابن إسحاق: هو العظيم من الأمر، وذكر بيت لبيد :
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْـنَا بِفَقْدِهِ وَعِندَ الرُّدَاعِ بَيتُ آخرَ كَوْثَرِ
أي عظيم .
قلت: أصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نص في الكوثر . وسمع أنس قوماً يتذاكرون الحوض فقال : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .
وفي حوضه يقول الشاعر:
يَا صَاحِبُ الْحَوضِ مَنْ يُدَانيكَا وَأَنتَ حَقًّا حَبيبُ بارِيكَا
وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيـره قد أُعْطِيَه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيادة على حوضه ، صلّى الله عليه وسلّم تسليمًا كثيـرًا.
منقول عن ((الجامع لأحكام القرآن )) للإمام القرطبيّ (22/519-523) ط : الرسالة .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) ديوان الكميت ص (177) ، وتـهذيب اللغة (10/178) والصحاح (كثر) والكلام منه .
(2) قائله حسان بن نُشْبةَ التميميّ ، كما في شرح ديوان الحماسة للمرزوقيّ (3/338) .
(3) و(4) في صحيح البخاريّ (6581) و (7517) وجامع الترمذيّ (3359) وهو عند أحمد برقمي (12008) و (12989) .
(5) جامع الترمذيّ برقم (3361) وهو عند أحمد (5355) .
(6) أخرجه عنه ابن أبي شيبة (11/508) والطبريّ (24/685) .
(7) برقم (400) وهو عند أحمد (11996) .
(8) في صحيح مسلم : (( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى ... ))